التقويم التشخيصي : النص السماعي 

النص السماعي : الطَّروسِيُّ وَالْبَحْرُ 

الطروسي وَالْبَحْرُ 

اعْتَادَ النَّاسُ أَنْ يَهْرُبوا حِينَ يَرْشُقُهُمْ الْبَحْرُ، وأن يتراجعوا، وأن يُغادروا الشاطئ متفادِينَ الْبَلَلَ.. أَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ زهدي الطروسي فَلَمْ يَكُن يَفْعَلُ ذَلِكَ قَط . إِنَّهُ لا يتراجع، ولا يَهْرُبُ، ولا يخشى الْبَلَلَ، وَحِينَ تَأْتِيهِ الْمَوْجَةُ يَكْتَفي بِالْقَفْرُ مِنْ مَكَانِهِ مُسْتَثِيراً الْبَحْرَ لِيُتَابِعَ لُعْبَتَهُ بِعُنُفٍ أَشَدَّ. 

وحَتَّى إِذَا اشْتَدَّ الْمَطَرُ فَإِنَّهُ لا يَبْرَحُ الشاطئ. هنا مقره، هنا بيته، هنا ماضيه ومُسْتَقْبَلُهُ كِلاهُمَا. هُنا يَجْلِسُ وَيَنْظُرُ إلى بعيد، إلى الآفاق وما وراءها، إلى عوالم حبيبة، وموانئ كثيرة، زارها على مركبه "المنصورة" الذي حطمته العاصفة، واسْتَقَرَّ أَشلاء في الأعماق. 

ثُمَّ هُنا مَقْهَاهُ. فَبَيْنَ هذه الصخور التي طوق فيها كثيراً، وسار عليها طويلاً، افتتح مَقْهَاهُ لِيَبْقَى عَلَى صِلَةٍ دَائِمَةٍ بالبحر، ليكون جاره في الفصول الْأَرْبَعَةِ، فِيمَا تَبَقَّى مِنْ سِنِّي الْعُمُرِ. 

ومع أن الشاطئ يَقْفُرُ في الشتاء، فَإِنَّهُ يَظَلُّ على صخوره حالما حلمه الخاص، ناظرا إلى الْأُفُقِ الْبَعِيد في الأماسي وأوقات الفراغ : ماذا في الْبُعْدِ يا طروسي؟ أَيَّهُ رُؤى وراء الْغَيْبِ أَيُّ سِر دفين فيه؟ أَي نداء مجهول يَأْتِيكَ مِنَ اللَّجَّةِ؟ أَيَّةُ صورة تُطَالِعُكَ مِنْ وَرَاءِ التحوم؟. 

لا أحد يدري. وحتى أبو مُحَمَّدٍ الَّذِي أَصْبَحَ مُلازماً لَهُ لَمْ يَكُنْ يَدْري وَلَمَّا سَأَلَهُ الْبَحَارَةُ أَوِ الزَّبَائِنُ: أَيْنَ الفروسي؟"، أشار إلى الشاطئ وقال: "هناك !".