قليلا من الحركة
محمد صلاح بوشتلة
شبح مجنون ذاك الذي يطارد رجل التعليم العام كله، بل حياته كلها، منذ تعيينه الأول، وتكبر جرأة هذا الشبح حبة سكر زيادة مع صدور مذكرة الحركة آخر شهر في كل موسم دراسي، فتتضخم هواجسه وتنمو هلوساته وتتوغل وساوسه عميقاً، في سجدات صلاته هناك حديث شجي مع ربه عن الحركة وأمل أن تتحرك به عناية الرّب إلى مكان لطالما حلم به، وفي مقاهي النسيان التي يرتادها مع رفقاء المهنة لا يجوز ولا يجيز له فيها أن ينصت بخشوع إلا لأخبار الحركة وإشاعاتها، فالحركة والموت هما وحدهما ما لا يمكن أن يكونا موضوع مزاح بالنسبة لرجل التعليم، لتبقى بدلا عنها كل قضايا الناس المصيرية من مكافحة التسيب والقضاء على الفساد واستقلالية القضاء مواضيع لا تصلح إلا للتنكيت اليومي، ومحطة فوق العادة للسخرية.
كلما حان وقت الحركة ينسى رجل التعليم قصائد درويش وسميح القاسم التي يُدرّسها، وينسى مدارس البعث والإحياء والرومانسيين الأوائل، وكذا أسماء تلامذته النجباء والمشاغبين، وتتوه عنه قواعد إعراب المبتدأ والخبر، ويفرغ أدراج خزانته من الكتب ومن دفاتر تلامذته النجباء القدامى التي ما يزال احترام ذكراهم يلزمه بحفظها، ويزيح عن أدراج خزانته ملابسه وبطانياته، ويكوم أغراض البيت كلها في البهو، أملاً طيبا أن يكون ذلك فأل خير مؤذن برحيله نحو بغيته، ويكون هذا الموسم آخر موسم له في المكان الذي لم يختره أبدا لنفسه، وإنما اختارته يدٌ عابثة بمصيره من داخل مديرية الموارد البشرية.
هناك من نساء ورجال التعليم من تم تعيينه في بقعة من بقاع هذه الأرض زمن قمة فاس العربية، دون أن تتمكن أي قوة من زحزحته من مكانه إلى اليوم، حتى أنه لو كان لا عب كرة قدم لانتقل لكذا بلد ولكذا فريق بعد عام أو عامين من الممارسة واللعب، وبصفقة طيبة الذكر من صفقات الانتقالات الشتوية أو الخريفية، ولكنه معلم مسكين أنهك بأسفاره المكوكية بين محل سكناه الأصلي ومكان عمله جسده، وجعلته تكليفات مديريات التعليم غير قادر على المراوغة ولا التهديف، بل وجعلت كل أهداف العالم تسجل في شبّاكه وحده، وكأن سائر حكام العالم ضده، أو لكأنه بلد ثالثي لا يمكنه بأي حال أن يستضيف كأس العالم، ولا حتى أن يفوز به، في مؤامرة عالمية ضده، خاصة وأن الحركة الانتقالية تعمل تماما بمنطق كأس العالم يشارك في بطولته الجميع، ولكن لا يفوز به إلا واحد، أو بالأحرى لا ينتقل فيه إلا واحد، إما لكونه مراوغا خطيرا، أو لكونه محظوظا ولكن بأثر رجعي ينتزع عنه صفة الحظ هذه. فأمر الحركة والكرة يبقى أقرب للحقارة، لمرات تراها تلمس كل الأقدام وتذهب في كل الاتجاهات، لكنها وللأسف الشديد لا تأتي لتلامس قدميك، فلا تعرف إلى أي جهة ستركض لتأتي إليك أو لتذهب إليها كما هي الحركة الانتقالية.
لقد صارت حياة رجل التعليم بالنسبة إليه مجرد حادثة حياة مؤسفة، كما هي حوادث السير المؤسفة التي يصادفها وهو في الطريق إلى مقر عمله في ربوع الجغرافيا الصعبة، حوادث كانت ستكون من نصيبه هو، وسيكون ضحيتها، لولا عناية الله بتلاميذ ينتظرونه، أو لخلل ما في إحداثيات المكان المناسب لحفرة أو منعرج خطير، أو لتغير ما في زمن الركوب. فالأستاذ على عكس الفصيحين في صياغة الشعارات، يريد أن يبني جيلا مستقرا ومتعلماً، لكن على حساب استقراره الخاص، فكم من أستاذ لا يجتمع بأسرته إلا مرة في الأسبوع أو أقل قليلا أو زد على هذا قليلا فقليلا. وهو ما ينتج عنه في حالات كثيرة ضياع أطفاله هو نفسه، واهتزاز استقرار الأسرة، بارتفاع قضايا الطلاق والنفقة عليه، فلربما لأنه يعمل بمنطق أنه " إذا لم تكن أعطيت الناس روحك فأنت لم تعطهم شيئا."، حالة الاستقرار المفقود هذه لا ينبغي معها من الوزارة تزويد رجل التعليم فقط بدفاتر التوجيهات التربوية وبالمذكرات الوزارية، ولكن بكتاب إرشادات عن الصحة النفسية المتوازنة الذي ربما يسعفه في الهروب من وساوس بعده عن فلذات أكباده وعن زوجته، أو حتى عن مدينته التي يحب أن يحتسي فيها قهوته المفضلة، ويحق له فيها أن يشتري جريدة يومه من إحدى جرائد وطنه، ولما لا مرة في الأسبوع يتبضع مجلة "النيوزويك" في نسختها العربية، فيمثل على نفسه دور المهتم بشأن العالم، وما ذلك على الله بعزيز، وإن أصابته حمى يجد يداً قريبة تحنو عليه، ومجسة طبيب ولما لا طبيبة طيبة القلب تكشف عليه.
بصدق فنحن كرجال تعليم لم يأكلنا البق فقط، ونحن في جبهات العمل وهذا من حسن طالعنا الذي يجب حمد الله عليه، لكن أكلنا عوضه طول الانتظار، لا انتظار الفرصة لأن نصير أصحاب عقارات ومزارع وضياع لا قدر الله، أو أن نسجل باسمنا مقلعا، أو أن نحظى برخصة نقل مزدوج بين تادلة وحد كورت، بل فقط للتنقل من مكان لا تجد مواشيه أي مشقة في تميز ووجوهنا عن وجوه كل الغرباء الذين أتوا وذهبوا، للتنقل إلى مكان نبدأ فيه تسديد أقساط سكن اقتصادي في الطابق السادس من عمارة بدون مصعد كهربائي وبدون حارس، فقط فلتسمحوا لنا بالتنقل ولتتأكدوا جيدا أننا لن نزاحمكم على بقعة في الأحياء الراقية، ولن نسجل أولادنا في مدارسكم الخاصة، ولن نسمح لأولادنا بأن ينقلوا لأولادكم لكنة البداوة التي حققوا فيها نسبة ملأ تكفيهم بقية العمر، وهم معنا في قرى ومداشر الوطن البعيدة، ولن نسابقكم في حمل سِلال التبضع في محلات الماركات العالمية، فنظرا لطبيعتنا الإقتصادية تكون زيجاتنا أصلا من النوع العادي المتوسط الحال، ونعطيكم وعدا أصدق من وعد بيلفور أنكم ستجدوننا مواطنين قمة في الطيبة، يقفلون عليهم أبواب بيوتهم قبل صلاة العشاء، ولا يفتحونها إلى بعد ساعات من صلاة الفجر، ولن نفعل في مدنكم شيئا لا تطيقون معه وجودنا معكم، لن نتسكع في دروبكم، ولن نقف في طوابيركم عند الجزارين، فالبوفتيك وكثرة اللحم أصلا ليست من عاداتنا الغذائية، ولن نجلس في ساحاتكم وحدائقكم العامة، فتباشير الروماتيزم منذ زمن طويل وهي تنتشر بين أكتافنا، وهشاشة العظام منذ سنوات لا بأس بها أخذت تقضم أطراف مفاصلنا.
رجل التعليم مثله مثل إبرة الراديو لا يمكنه أن يجد ذاته ويكتشف نفسه إلا في مكان محدد أو على الأقل بالقرب منه، فاسمحوا له بهذه اللحظة الوجودية، قبل أن تنكسر إبرته، ويكف لسانه عن تذوق ملح وسكر الحياة، فديوان نازك الملائكة " قرارة الموجة " الذي اشتراه عقب موت أنور السادات مباشرة، لا يزال يقسم عليه أنه لن يقرأه إلا بعد أن يشحن أغراضه ويدخل مدينته الأم دخول الفاتحين، وحينما يرى اسمه على لوائح من تحرك، فإذا كان الثعلب يعيش على الدجاج، والأفاعي على الفئران، والغربان على الأطلال، فرجل التعليم على عكس بقية المنتمين لفصيلة البشر الذين يعيشون على الخبز في أسوأ حال، يعيش هو على أمل الانتقال إلى مدينته، فلا تقودوه إلى الخيار الأصعب، بأن ينزع الثقة عن كل العالم الذي حوله، وأن يعتبر الجميع ناكرا للملح والطعام والجميل أيضا، جميل الأناشيد التي علمها، والمعلومات التي درسها وحفظها لفلذات كبد الوطن، فحياته تماما مثل حياة أي سجين، فتحوا له الباب، وفكوا قيد معصميه، ودفعوه من ظهره نحو الداخل، وأغلقوا الباب وراءه، وأقفلوه جيدا، فلا يعيدون فتحه ـ إحساناً منهم ـ إلا في المناسبات وأوقات العطل ليزور ذويه وأصحابه، وليترك وردات حمراء حزينة ويرش ماء زهره على قبور من ضاع وانتقل إلى العالم الآخر من أصحابه والقريبين من خبره الوراثي، وليعود بإرادة طوعية منه إلى المكان الذي اختاروه له.
نريد كرجال تعليم أن نجرب نحن أيضا العيش في مكان آخر، في المدينة، نريد أن نأخذ حقنا من تلوثها، من صخبها وجنونها، وليأخذ مكاننا في قفار البوادي من امتلأت صدورهم بمجون المدينة، نعم فقُرى هذا الوطن جزء منا، نهبها أروحنا ودماءنا، لكن ليس من المساواة في شيء أن يتحمل مهمة حماية أبناء قُرانا من الجهل طرف واحد، فمهما طالت سنوات الصبر لابد لرجل التعليم من أن يحلم، ولا أحد سيمنعه من الحلم على الأقل، في أن يأتي يومٌ تكتمل فيه أركان بيته.
السنوات العديدة التي قضاها والتي تتحول إلى نقط قد لا تكون معيارا، لأجل السماح له بتغيير مكان عمله، بالمكان المطلوب لديه، إذ له مئة حجة، وأربعة عشر دليل آخر عن ضرورة تحقيق أمنيته، فلو ترك له المجال ليقنع القائمين على ملف الحركة، فإنه سيأتي لهم بمجموعة كبيرة من الخرائط والرسوم التوضيحية المقنعة جدا عن مدى تأثير انتقاله على حياته، وسيأتي لهم بدفتره الصحي الذي مرت عليه طوابع أطباء من مختلف التخصصات من الأعصاب والحصبة والسعال الديكي، والزائدة الدودية إلى القلب وحمى الثلث والجذام، ووثائق تاريخية تثبت خطورة حالته الصحية التي زادها تعقيدا كثرة تدخينه علب التبغ الرخيص، وكثرة السهر واحتساء كؤوس القهوة، لكن الجميع يرفضون الإنصات إليه، لأنهم لن يصمدوا أمام دراما حياته، وحكاياته التي لا تنتهي مع الأفاعي التي تلقي عليه سلام الصباح في غرفة الدرس، ومع حكايات سيارته المتهالكة التي بالكاد تنقاد لقيادته الكريمة في اتجاه مكان عمله البعيد جدا.
وأخيرا أهمس لمسؤولينا أنه وكما تنتظرون بلهفة وقت الإفطار، فتطرقون صمتا لتصيخوا السمع لآذان المغرب، أنصتوا بارك الله لكم في صيامكم لمطلب الجندي المجهول رجل التعليم، يترجاكم أن تهيلوا عليه بقليل من الحركة.